سهل سراقب الإستراتيجي يقع في منطقة بالغة الأهمية على الطريق الواصل بين حلب ووسط بلاد الشام وغربها، وتُشير المصادر التاريخية والمرويات الشائعة في المنطقة أنها كانت سهولاً زراعية فيها خانٌ لراحة المسافرين وتوفير احتياجاتهم منذ العهد المملوكي، وأنها بدأت بالتحول إلى تجمعٍ سكاني منذ القرن السابع عشر، منذ تزايدَ مرور المسافرين والقوافل التجارية والمواكب السلطانية والأميرية على الطريق بين سهول شمال حماة وحلب، وهو الطريق الذي يمر عبر معرة النعمان، خان السبل، خان سراقب، خان العسل، وصولاً إلى حلب.
وهي اليوم عقدة مواصلات بين طرق رئيسية تربط طريق “حلب- دمشق” و”حلب – اللاذقية” و”حلب – ادلب”، ممّا يفسر لنا تصميم النظام منذ بداية الثورة السيطرة عليها ومحاولاته المتكررة لوضع نقاط تمركزٍ له حول المدينة و داخلها وانتقامه من أهلها بعد تحريرها وقصفهم بالطيران بشكل دائم ليلاً ونهاراً .
دفعَ أبناء سراقب ثمناً باهظاً لأحلام الأسد السلطانية في الثمانينات مائةٌ وخمسون شاباً من كوادر الإخوان المسلمين اعتُقِلوا ولم يرجعوا أبداً إلى بيوتهم، وعشرات المعتقلين الذين عادوا إلى بيوتهم بعد سنوات طويلة من عدة تيارات سياسية أبرزها الإخوان المسلمون، والحزب الشيوعي، المكتب السياسي.
خلّف ذلك في الذاكرة لأبناء سراقب جروحاً غائرةً ظهرت آثارها جليةً لاحقاً، لكن القرية كبرت وازدهرت حتى صارت بلدةً ثم مدينةً صغيرة، وصار فيها منطقةُ صناعية ضخمة.
سكان سراقب كانوا ولا يزالون قادرين على التكيّف مع جميع الظروف، أورثتهم التجارةُ حُسنَ اقتناص الفرص والقدرةَ على الاستقلال عن مؤسسات الدولة في تأمين أسباب الحياة، وأورثتهم الزراعةُ ومستلزماتُ تأمين المسافرين اعتداداً بالأرض، وعاداتٍ راسخةً تُلزمهم بحسن الضيافة، وإغاثة من تقطَّعت بهم السُبُل.
كانت سراقب من أوائل المدن المشاركة في المظاهرات ضدّ نظام الأسد منذ اندلاع الثورة، حيث خرجت أول مظاهرة في المدينة بتاريخ 25آذار 2011 نصرةً لأطفال درعا وتضامناً مع بقية المدن السورية المنتفضة وهتف المتظاهرون : “مافي خوف مافي خوف” ومنذ ذلك التاريخ استمر أهالي المدينة بالخروج في التظاهرات الحاشدة ليلاً ونهاراً بشكلٍ شبه يومي، وقد واجه النظام هذه التظاهرات بقسوة شديدة وقام بتفريقها بالرصاص الحي.
تصرفات الأمن والجيش استفزت المدينة فاندفعت كلها للتظاهر ، ولتصبح المدينة كلها ثائرة، تظاهرة إثر تظاهرة تعقبها تصاعد في الشعارات المطروحة من المطالبة بالحرية والكرامة إلى المطالبة بإسقاط النظام، لتقطع المدينة آخر خيوط الخوف، الأمر الذي دفع النظام لتصعيد قمعه فبات يستخدم الرصاص الحي والمدافع في قصف المدينة والتظاهرات، لترد المدينة بالتظاهر أكثر وأكثر، إلى أن وصل الأمر إلى مفترق طرق حاد: إما التحوّل نحو السلاح أو إيقاف التظاهر، وخرجت المدينة عن سيطرة قوات النظام في بداية شهر حزيران من العام (2011)، وردّاً على ذلك قام النظام بمحاصرة المدينة ثمّ قطع عنها الماء والكهرباء.
وبتاريخ 11آب 2011 اقتحمَت دبابات ومدرعات النظام المدينة وأطلقت النار عشوائياً، وقام النظام بعمليات دهمٍ واسعة في المدينة اعتقل إثرها حوالي مئة شخصٍ وكان من بينهم العديد من الأطفال، كما عاود النظام اقتحام المدينة بتاريخ 3تشرين الأول 2011 في ما عرف بـ “اثنين نصرة تلبيسة”، واستمرت الضغوط على الأهالي الذين أعلنوا لاحقاً الإضراب العام بتاريخ 26تشرين الأول 2011، وبتاريخ 29 كانون الأول 2011 بدأ العصيان المدني في مدينة سراقب ضمن حملة إضراب الكرامة، حيث قام الأهالي بتحطيم تمثالاً لرأس حافظ الأسد وتمزيق صور بشار الأسد، ليردَّ النظام بعدها بقصف عشوائيٍ للمدينة مخلفاً دماراً هائلاً في المنازل والمدارس.
اشتدت المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام في المدينة، كما أدت وحشية النظام في قمع المظاهرات لانشقاقات واسعة عن صفوف الجيش النظامي من أبناء المدينة، وانضم المنشقون لاحقاً إلى الجيش السوري الحر لحماية المدنيّن المنتفضين، و تشكلت أول نواة للجيش الحر، ولتتحد الكتائب تحت اسم “جبهة ثوار سراقب” بتاريخ 1 كانون الثاني 2012، آخذة على نفسها حماية المدينة والإلتزام بشعارات الثورة السورية بالحرية والكرامة، أي الوصول إلى معادلة “عسكر مهمتهم حماية المدنيين، وحراك مدني يطوّر نفسه وأساليبه ليدير المدينة على أكمل وجه”.
وبتاريخ 24 آذار 2012 اقتحمت قوات النظام المدينة للمرة الثالثة مما أدى لسقوط العشرات من الشهداء والجرحى، وإلى تدمير هائل في البنى التحتية للمدينة وكذلك في مركز المدينة والسوق التجاري، كما أحرقت قوات النظام عشرات المنازل والمحال التجارية، واعتقلت العشرات من الشباب، وقامت بتنفيذ العديد من الإعدامات الميدانية، وشهدت بدء العمليات العسكرية فيها حركة نزوحٍ كبيرة طالت 70% من سكانها.
بتاريخ 2تشرين الثاني عام 2012 استطاع الجيش الحر بسط سيطرته على كامل المدينة وذلك بعد انسحاب دبابات وعناصر قوات النظام من
ها، وكان لتحرير مدينة سراقب أثراً كبيراً على النظام لخسارته السيطرة على نقطة تقاطع طريقين رئيسيين “حلب- دمشق” و “حلب- اللاذقية” ممّا اضطر النظام للبحث عن طرقٍ أخرى لإيصال إمداداته إلى حلب، ومازال النظام مستمراً بقصف المدينة بشكلٍ يوميّ ليلاً ونهاراً بالقنابل العنقودية وبكافة أنواع الصواريخ وكذلك لم يتوان طيران النظام عن تدمير المدينة بالبراميل المتفجرة.
أما اليوم، فإن في سراقب تاريخاً يُكتَبُ كل دقيقة، وهو تاريخٌ ينبغي أن يوثَّق كما يليق بالتضحيات العظيمة، حيث أكثر من 800 شهيد، وعشرات المعتقلين، وآلاف الجرحى، وعشرات آلاف النازحين، ومئات المباني المدمرة، وثورةٌ مستمرة..
تقرير :منى معراوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق